اختلاف اللفظ في المقابل لمعنى الإيمان عن معنى التصديق
وهناك استدلال ثالث على أن الإيمان في لغة العرب يختلف عن معنى التصديق قال المؤلف رحمه الله: (أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه -بالتقابل- ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر).أي: فيقال: آمنت أو كفرت، أو آمنا أو كفرنا ويقال: هو مؤمن أو هو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب من جهة اللغة كما أن الإيمان لا يختص بالتصديق، فالإيمان ليس مرادفاً للتصديق، وليس الكفر مرادفاً للتكذيب، بل هذا له زيادة في معناه، وهذا له زيادة، فالتكذيب جزء من الكفر وأحد أنواعه، وله أنواع أخرى ككفر الجحود، وكفر الإباء والاستكبار، وكفر العناد، وكفر الشك، والشك هو أقرب إلى التكذيب, لكن المكذب مصرح، وذاك إنما هو شاك، والشاك كافر ولو لم يتصف بالتكذيب. ولذلك شيخ الإسلام يبين أن التكذيب غير الكفر بقوله: (بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق -أي: لا أكذبك- ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك، ولا أوافقك لكان كفره أعظم)، ولهذا فالذين يفسرون الكفر فقط بأنه التكذيب أو بأنه الجحود يخالفون هذه الحقيقة، وقد سبق أن قررنا ذلك في موضوع الحكم بغير ما أنزل الله، فلو قال رجل: أنا أعلم أن شريعة الله أفضل وأحكم وأحسن، ولكن لن أطبقها، ولن أعمل بها، ولن أتحاكم إليها فهذا من جنس من يقول: أنا أؤمن بك ولا أكذبك، لكن لن أوافقك ولن أطيعك، وهذا هو معنى لن أحكم بشريعتك، ولن أتبعها، وهذا كفره نوع آخر من الكفر غير كفر الجحود؛ لأنه لم ما يجحدها. بل يقول: الشريعة أفضل، ويشبه هذا لو لقيت مستشرقاً فقلت له: لِم لم تسلم؟ أو دعوته إلى الدين فقال: الإسلام أفضل الأديان وأعظمها وهو بهذا لا يعد مؤمناً ولا مسلماً، وكونه يقول: الإسلام أفضل دين لا يدل على أنه مسلم، إذ لا بد من الانقياد والإذعان والاتباع، من قال: شريعة الله هي الأفضل، والإسلام هو الدين الخالد الذي أتى بمصالح الدنيا والآخرة، وهو صالح لكل زمان ومكان، ويثني على الإسلام، يقال له: هل آمنت بهذا وانقدت؟ وهنا هو محك التجربة، فإن حكم بما أنزل الله فقد صدق هذا القول، وإن خالف ذلك وأعرض عنه فهو كالذي يقول كما عبر شيخ الإسلام: (أنا أعلم أنك صادق، وأنك رسول، وأنك حقاً بعثت من عند الله، لكن لن اتبعك، ولن أنقاد لك، فهو كالحبرين اليهوديين اللذين قالا: ( نشهد أنك نبي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يمنعكما أن تتبعاني ) ) فهذان الحبران لم يتبعا كما فعل عبد الله بن سلام رضي الله عنه عندما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، على سبيل الانقياد والإذعان والقبول؛ ولهذا بهته اليهود، فبعد أن قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، قالوا: شرنا وابن شرنا…إلخ. وهذان الحبران لم يريدا أن يشهدا كما شهد عبد الله بن سلام رضي الله عنه، إنما قالوا: نشهد أنك صادق في دعوى النبوة، لكن أين هؤلاء من الاتباع؟ ولذلك سألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يمنعكما أن تتبعاني) أي: إذ قد شهدتما فآمنا واتبعا، وكونا من المسلمين، فاعتذرا أعذاراً لا تنفع عند الله، كما أن عذر هرقل في حب الملك لا ينفعه، وكذلك أبو طالب كان عذره الخوف من ترك ملة عبد المطلب ، وترك عادات قبيلته، وهكذا كل يبحث عن عذر، فالمراد أن هؤلاء جميعاً كفار؛ لأنهم لم ينقادوا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يسلموا وجوههم لله. يقول المؤلف رحمه الله: (فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً بلا تكذيب فلا بد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلماً منقاداً للأمر وهذا هو العمل)، أي: أننا قد رددنا عليكم أيها المرجئة عندما تخرجون العمل عن الإيمان، مع أن حقيقة الإيمان هي الانقياد بالجوارح وامتثال الأوامر. قال المؤلف رحمه الله: (فإن قيل: فالرسول صلى الله عليه وسلم قد فسر الإيمان بما يؤمن به، قيل: الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ما يؤمن به، ولم يذكر ما يؤمن له، وهو نفسه يجب أن يؤمن به ويؤمن له، فالإيمان به من حيث ثبوته غيب عنا أخبرنا به، وليس كل غيب آمنا به فعلينا أن نطيع، وأما ما يجب من الإيمان له فهو الذي يوجب طاعته، والرسول يجب الإيمان به وله، فينبغي أن يعرف هذا، وأيضاً: فإن طاعته طاعة لله، وطاعة الله من تمام الإيمان) أي: بالله تبارك وتعالى، وهذه مسألة جزئية، ولا إشكال في كون النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بما يؤمن به لا بما يؤمن له، ولكننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع فيه الأمرين، فنحن نؤمن به صلى الله عليه وسلم وبما أمرنا أن نؤمن به، وهو في ذاته نحن نؤمن له أي: نصدق له، ونقر له وننقاد. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.